تدريباتنا

كل من يدخلها يغدو ابناً لها لا ضيفها

بواسطة | مارس 3, 2023

ربما هو معتاد بالنسبة لبلد تتكرر فيه هذه الظاهرة، لكن هنا في سوريا كل ما يحدث هو إشارة لسوء الطالع. حرب، فيروس كورونا ومن ثم “حصار اقتصادي” ليتبعها أخيراً زلزال خيّب كل توقعاتنا بأنه عابر. فجيعتنا مضاعفة! وكأن السوري خُلق محظوراً عليه التنفس، مسرفاً في الفقد والعوز للأمان والطمأنينة؛ قلوبنا أضحت مأوىً للتشرد. 

تمر الحياة مثل شريط سريع في لحظات الأزمة؛ وهذا ما حدث لي فجر الاثنين، فأثناء نومي شعرت وكأن قوة جبّارة تشدّني عن السرير وهدير مرعب خمّنت أنه بسبب العاصفة في الخارج، لكن ما علاقة ذلك باهتزاز الأرض من تحتنا؟ قفزت من سريري وأنا نصف نائمة متوجهة إلى غرفة العائلة لأجد أمي مذعورة تبتهل وأبي يهدّئ من روعنا. “إنها هزة أرضية!”.

في ذلك الصباح لم يعد بمقدورنا النوم؛ فكنّا رابضين في أسرّتنا مذعورين من هذا الحدث الجلل، ننتظر هول ما هو قادم، خاصة وأنّ الحادثة تزامنت مع عطل في كهرباء البلدة لتأتي الصدمة بانهيار بيوت وسقوط آلاف الضحايا وتشرّد السوريين من جديد وكأنّ كل ما مرّ بهم لم يكفِ.

يستحضرني أمام آلامنا المتكررة ما قاله أيوب بعد أن حلت به المصائب متعاقبة: “عرياناً خرجت من بطن أمي.. وعرياناً أعود إلى هناك”. 

الحضن الدافئ  

الاثنين، 6\2\2023، الرابعة صباحاً، استيقظ السوريون على زلزال لتتواصل الفواجع على سوريا. جرح مؤلم جديد. دمار في كثير من الأماكن، ذروته في حماه، حلب، اللاذقية وإدلب. 

ولكن بالمقابل، كانت هناك عشرات القرى المجاورة انتفضت لإغاثة الأهالي واستضافت المحتاجين. ومن بين تلك القرى بلدتي كفربهم التابعة لمحافظة حماه، حيث أعيش، كنت أرى صور التآخي في أبرز تجلياتها عبر التعاون لإغاثة الملهوفين دون تفرقة.

فتحت البلدة ذراعيها كأمّ حنون منذ اليوم الأول بعد الزلزال؛ فبادر الأهالي بإرسال الحافلات الكبيرة من المحافظة لإحضار العوائل المنكوبة، حيث تكفلت الجمعيات الخيرية في البلدة بتزويد تلك الحافلات بالوقود ودفع أجرها. وبمجرد وصولهم اندفع الأهالي للمساعدة بفتح بيوتهم مستقبلين حوالي 162 عائلة؛ أي حوالي 550 فرداً، رافضين وبشدة أن يكون هناك مراكز إيواء في البلدة معتبرين ذلك عاراً بالنسبة لهم. تقول “فضة جوهر (67 سنة): “الصدر لهم والعتبة لنا، إن لم تسعهم عيوننا نضعهم في قلوبنا”. معظم المتضررين كانوا من حلب وما تبقى من اللاذقية وعوائل قليلة من إدلب. 

وحسب ما رأيت هبّ شباب البلدة فأمّنوا الاحتياجات التي كانت مطلوبة من “بطانيات، اسفنجات، حليب أطفال، فوط للأطفال، وملابس” كما قام أهل البلدة بتجهيز الطعام للعائلات، إضافة لمدرسين وأطباء وصيادلة من البلدة قاموا بتقديم خدماتهم مجاناً.

أيقونة للعطاء

فاجأتني كمية المحبّة والتعاطف الاجتماعي في لهجة من حدّثتهم بهذا الخصوص. شعرت أن الجميع يحب ويساند الجميع، وكتف السوري ما كان يوماً إلا عكازاً لأخيه السوري المنكوب.  

الدكتور “نزار نصار”، أخصائي أشعة، أبدى استعداده للتعاون في مساعدة المحتاجين من العائلات، حيث أعلن أنه على استعداد لإجراء الفحوصات الشعاعية للمتضررين من الزلزال مجاناً في عيادته، وأنه مستعد للتبرع بأجور المشفى التي نُقل إليها أحد المتضررين الذي عاين ساقه.  

“رعد الديبان” من سكان بلدة كفربهم قال: “عرضت استضافة عائلة في بيت ثانٍ لي ولم يعجبهم لمشكلة فيه لم أستطع حلها، فعرضت أن يقيموا في منزلي ومرحِّباً بهم إلى أي وقت”.    

ورغم أعمال الترميم التي كان يقوم بها، لم يتوانَ السيد “وجيه غانم” مالك منتجع كفربهم السياحي، عن تقديم العون والمساهمة إلى جانب أهل البلدة، حيث أخبرنا أنه أوقف جميع نشاطات المنتجع وأعمال بناء كان يقوم بها في منتجعه لاستقبال العائلات المتضررة، وقد قدم لهم الطعام والرعاية. 

كان “واسكين قبانجيان” أحد المتضررين من حلب، وقد أخبرنا في حديثه عن شعوره بالأمان بين أهل البلدة كأنهم أهله، وعلى وجه الخصوص تلك الرعاية الكريمة التي قاموا بها لوالده السبعيني المريض حيث عرضوه على طبيب وقدّموا له العلاج المناسب. 

الحياة مِنحة

أثناء حديثي مع “الأب فيلبس” وهو راعي كنيسة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس، داهمتني الكثير من الأسئلة تجاه ما حدث في البلدة بهذا الخصوص فأخبرنا قائلاً: “صباح الاثنين أتتنا توجيهات من مطرانية حماه لنفتح الكنائس للمتضررين، وبما أنه ليس لدينا مراكز إيواء في البلدة فتحنا بيوتنا للعائلات بكل محبة وقدّم الناس كل ما يستطيعون لهم”. 

وأضاف: في اليوم التالي قدِمت الجهات المعنية والهلال والصليب الأحمر إلى البلدة ليجدوا كل شيء على أكمل وجه. وقد كان التعاون بيننا وبينهم على قدم وساق، وبادر الكثير من الأشخاص القادرين مادياً والمغتربين إلى التبرع بمبالغ كبيرة للجمعيات الخيرية في البلدة، كما قدّمت صيدليتا أليسار وكفربو الأدوية مجاناً، وقد كان لشبابنا وقفة عظيمة ومختلفة، فبذلوا ما بوسعهم لإبعاد شبح الرعب عن قلوب الناس والمتضررين.

-هنا في كفربهم كل من يدخلها يغدو ابناً لها لا ضيفها-وشرح الأب فيلبس كيف أن العديد من العائلات عاد إلى حلب بعد هدوء العاصفة تاركين قدماً لهم في البلدة خوفاً من تكرار الحدث: “فالزلزال لم يستكن تماماً و الهزات الارتدادية قائمة. وهناك عائلات فضلت البقاء في البلدة بسبب دمار منازلهم، وسنكون سنداً حقيقياً لهم إلى أن تنتهي هذه الأزمة؛ أزمتنا جميعاً”.

مجدداً 

فجر الثلاثاء 21\2\2023 ضرب زلزال ثانٍ لثوانٍ معدودة أتى كصدمة سمجة فما كان منّا إلا الاستهجان فقط، إذ بات الخطر حالة اعتيادية في حياة السوريين، فدائماً هناك الأمل الذي يهبط فجأة، لكن ليس الأمل الساذج وإنما إرادة الحياة التي تخلق نفسها بعد كل أزمة أو كارثة طبيعية. 

إن الكوارث التي تعصف بالإنسان والبشرية جمعاء وتهدد الوجود الإنساني تجعلنا نخرج من دائرة الأنانية الضيّقة، لتصبح الحياة بكامل تفاصيلها اليومية، حياة تشاركية مبنية على المحبة والمساندة. إن سوريا اجتازت كل الآلام، حسب ما أشعر في كل مرة يدميها الدمار تنهض كطائر الفينيق، وشعبها غدا متصالحاً مع الموت الذي يقرع أبوابنا في كل حين.  

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا