تدريباتنا

كهولة في جسد صغير

بواسطة | يونيو 11, 2018

بقوام نحيل هزيل يقف “أحمد محمد” خلف بسطته البسيطة على الجسر الرئيسي لمدينة القامشلي، يُفرغ كراتين الجوارب ويرتبها بجانب بعضها وبشكل متدرج كل منها على حدة حسب التسعيرة المختلفة لكل صنف منها.

يعمل أحمد البالغ من العمر ستة عشر عاماً حوالي ١٣ ساعة يومياً ليؤمن قوت عائلته بعد عودة والده الذي كان يعمل موظفاً حكوميا في الرقة وفراره منها بعد سيطرة تنظيم داعش عليها في 12/ كانون الثاني/ 2014.

يقول أحمد: “أجبرت على ترك مقاعد الدراسة بعد عودة والدي وفقدانه لوظيفته وارتفاع الأسعار الجنونية فاقت طاقته لاسيما وأننا عائلة كبيرة مؤلفة من ٩ أشخاص، فكان لابد من حل سريع ينقذ عائلتي من الفقر والعوز، والحمد لله البسطة الصغيرة هذه تؤمن لنا يومياً حوالي ٩٠٠٠ ليرة سورية ما يعادل ٢٠ دولاراً.”

يعتبر “حسن جميل” الوقوف خلف بسطة لساعات طويلة نعمة بالمقارنة مع تنقله لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة صيفاً والبرد القارص شتاءً بين سرافيس كراج “نوروز” على الجسر الثاني للمدينة باحثاً عن مشترين لعلب المحارم. ومن جهة أخرى نزح جميل البالغ  من العمر أربعة عشر ربيعاً من مدينة حلب إلى مدينة القامشلي مع أخيه “صبري” ووالدته وأخته الصغرى “قمر” بعد مقتل والدهم في غارة جوية على حي “إبراهيم هنانو” والتي دمرت أغلب البيوت وقتلت العشرات منهم. يقول جميل عن تجربته: “كان والدي يحلم أن أصبح محامياً في المستقبل لكن ظروف الحرب القاسية أخذت والدي ودمرت بيتنا وحتى أحلامنا.”

بين الحاجة والمخاطر

تعتبر ليلى سعيد، اسم مستعار لأم لأربعة أطفال وزوجة لرجل مقعد في كرسي متحرك، الأسباب الاقتصادية السيئة أهم المسببات لعمالة الأطفال سواءً أكانت هذه الأوضاع الاقتصادية ضمن  الدولة أو في نطاق العائلة والتي تفرض على الكثير من العائلات دفع أطفالهم للعمل في سن صغيرة مقابل النقود القليلة التي يجنونها والتي تساعد في معيشة العائلة. ويعمل ابن ليلى القاصر في تصليح السيارات بيومية لا تتجاوز ١٥٠٠ ليرة سورية ما يعادل 3 دولارات تقريباً. تقول ليلى أن مشكلة عمالة الأطفال لا تقتصر فقط على حرمان الطفل من حقه في ممارسة الأمور التي يفعلها أقرانه في العمر؛ بل يزيد الأمر وطأة  ليصل إلى تعنيف الطفل العامل.

بينما تعتقد أم سمير، أرملة وربة منزل، أن: “عمالة الأطفال ليست غريبة على مجتمعنا فرؤية طفل يعمل في ورشة تصليح سيارات، أو بائع متجول في الشوارع لم يعد يشعرنا ذلك بانكسار قلوبنا لرؤية هذا المنظر.” وتصف الأرملة الثلاثينية عمل الأطفال في تلك السن الصغيرة بأنه إيجابي ويساعد على بناء شخصيتهم مبكراً ويُمكنهم من تحمل المسؤولية.

نظام طاهر

انهيار الصحة الجسدية

الكثير من الاتفاقيات الدولية وقوانين حماية حقوق الطفل في العالم تُجرم الاستغلال الاقتصادي للأطفال، لما لهذه الظاهرة من آثار سلبية يصفها  نظام طاهر اختصاصي طب الأطفال بالكارثية على صحتهم لأنهم أكثر عرضة لاختلال الوظائف الحيوية، ومعدل النمو، وتوازن الأجهزة المختلفة في الجسم. ويضيف طاهر: “يتأثّر الطفل صحياً من ناحية القوّة والتناسق العضوي، والسمع والبصر بسبب الكدمات والجروح وصعوبة التنفس والنزيف، ويتعرض الطفل المشتغل لكثير من المخاطر الصحية وأمراض المهنة وحوادث العمل كضعف الإبصار أو عاهات بالعمود الفقري والأطراف.”

ويحذر طاهر من عمل الأطفال في الكيماويات بالورش ومجالات التصنيع الذي يصاحب العمل به استخدام الأحماض والقلويات والمذيبات العضوية والمنظفات ومواد الصباغة والدباغة، وما ينتج عن هذه المواد من التهابات جلدية وحروق وأمراض عضوية أخرى، خاصة بالنسبة للدم والجهاز العصبي والجهاز الدوري  كما أن بعض هذه المواد تسبب السرطانات. كما يتعرض الأطفال لأخطار أخرى تتمثل في الكيماويات ذات التأثير السام مثل الرصاص، ومركبات الكلور العضوي ومالها من أضرار شديدة على المعرضين لهذه المواد، كما تحدث هذه المواد خطورة شديدة على الجهاز العصبي و النفسي كما أن بعضها يؤدي إلى الإدمان.

الآثار النفسية للظاهرة

يتأثر الطفل نفسياً وعاطفياً بعمله في السن المبكرة، حيث أنه يكون أكثر عرضة للاكتئاب وحدوث الشيخوخة المبكرة، حسبما يؤكد أخصائي الأمراض النفسية والعصبية (ماجد فهيم) مشيراً إلى أن قلة التواصل العائلي والاجتماعي للطفل يؤثران سلباً على نفسيته فيجعلانه أكثر عنفاً وانطوائية وقد يتجه الكثير منهم لارتكاب الجرائم.

ويردف: “علينا أن نعي خطورة عمالة الأطفال، والابتعاد عن تشجيع استمرار هذه الظاهرة من خلال عدم استخدام الأطفال كعاملين أو خادمين بأي طريقة، كذلك يجب ردعهم عن العمل كبائعين جوالين، أو متسولين فهذا يؤدي إلى انتشار الجرائم والجهل والعنف في المجتمع، وهذا يؤدي بدوره إلى بناء مجتمع مريض.”

أشار محمد علي عثمان أخصائي الصحة النفسية والتنمية البشرية في مركز سمارت للصحة النفسية إلى أن الواقع الذي تعيشه البلاد وظروف الحرب التي أجبرت الأسر السورية ذوي الدخل المحدود على تشغيل أطفالها لتحسين وضعها المادي وتأمين مصادر دخل إضافية مضحيةً بصحتهم ونموهم وبراءتهم ومعرضةً إياهم لصنوف شتى من العنف لدرجة الاعتداء والتحرش الجنسي أحياناً.

ونوه عثمان الى أن قرابة ٦٣٠ ألف طفل يعملون ضمن شروط غير إنسانية، ليشكلوا ما نسبته 3% من إجمالي قوة العمل السورية وفق الدراسة التي أعدها المكتب المركزي للإحصاء بالتعاون مع جامعة دمشق ومعهد فافو النرويجي ومكتب اليونيسيف في دمشق، وأكدت الدراسة أنه يقدر عدد الأطفال العاملين في سورية من الفئة العمرية ١٠ -١٧ عاماً بحوالي ٦٢١ ألف طفل.

وليدة حسن

الحلول

انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة عمالة الأطفال في مدن ومناطق إقليم الجزيرة. وترجح وليدة حسن الرئيسة المشتركة لمكتب حقوق الإنسان في الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال سورية (روجآفا) أسباب هذه الظاهرة  للظروف الراهنة التي تمّر بها المنطقة. ووفقاً لحسن فأبرز هذه الأسباب الفقر الذي تعانيه أغلب الأسر، أو وفاة معيل العائلة الذي يدفع الطفل للعمل من أجل مساعدة أسرته مادياً. ولتدارك هذه الكارثة تشير حسن إلى خطة عمل وضعها مكتب حقوق الإنسان بالتنسيق مع هيئة المرأة قائلة: “نشرنا برشورات تضمنت بعض القوانين المتعلقة بمنع عمالة الأطفال والإنذار بعقوبة السجن تصل إلى ثلاث سنوات إلى جانب فرض غرامة مالية على ولي أمر الأطفال العاملين وكذلك أرباب عملهم تراوحت  بين (400000/500000) ليرة سورية وتضاعف في حال تكرارها، وقد تصل العقوبة إلى السجن المؤبد حسب المادة (19) الخاص بقانون المرأة والطفل لكل من يتاجر بالأطفال، وتشمل الاستغلال الجنسي والمتاجرة بالأعضاء، ولتلافي هذه المشكلة يجب العمل على عودة الأطفال إلى مدارسهم.”

وبينت وليدة أن البرشورات وزعت على عوائل الأطفال وأرباب العمل في منطقة الصناعة في مدينة القامشلي وفي الأسواق والأماكن العامة وكل ذلك كان لإدراك مدى خطورة هذه الظاهرة ونتائجها السلبية على كافة شرائح المجتمع إضافة إلى تبني خطة  تشغيل فرد من عائلة الطفل العامل في إحدى مؤسسات الإدارة أو تأمين العمل لفرد واحد مقابل إفساح المجال للطفل للعودة إلى مقاعد المدرسة لإتمام دراسته.

رغم وجود القوانين الدولية والحكومية إلا أن كل هذه الجهود المجتمعة عجزت أن تجد حلاً لهذه الكارثة الإنسانية التي خلفت وستخلف أجيالاً من الأطفال يقبعون في مستنقع الجهل والتخلف بما فيه من الأمراض الجسدية والنفسية والاجتماعية وبالتالي خسارة جيل كامل من أبناء الوطن وترك شرخ وفجوة عمرية وسكانية واقتصادية يصعب ردمها وردم نتائجها الخطيرة على مستقبل النمو الاقتصادي والسكاني في الوطن.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا