تدريباتنا

مُخرِب الأحلام

بواسطة | يوليو 30, 2018

كان الشاب المدعو- آدم  والذي صار لقبه فيما بعد – الفيل – يجلس في الباحة السماوية تحت شجرة النارنج، عندما رأى فقاعة أشبه بفقاعة الصابون، تخرج من نافذة الغرفة التي ينام فيها والده وعروسه، وتقترب نحوه .

كان والده قد يئس من أية إمكانية لجعله آدمياً، فقد  طُرد من مدرسته على إثر ضربه لأحد أساتذته كما فشل في كل المهن التي تنقل فيها وكان على قناعة راسخة أنه لم يخلق ليؤدي عملاً نافعاً. بل يتعمد أن  يفسد الأشياء التي يفترض أن يصلحها، كأن يترك في المدافئ ثقوباً ليتسرب منها الوقود وتحرق البيوت بقاطنيها أو يغرس في الأحذية مسامير مسننة، أو يحدث في أقفال الأبواب ثغرة كي يخلعها اللص  ووصل به الأمر إلى وضع العث والديدان في المعاطف التي يبيعها .

بعد  طرده صار يمضي وقته  في باحة البيت تحت شجرة النارنج،  يسهر ليلاً وينام نهاراً. وكان الأب الذي طلق والدة آدم وتزوج شابة صغيرة  يشعر أن منتهى سعادته هي أن ينام ولده حتى وقت متأخر ويتمنى أن لا يستيقظ أبداً.

عندما صارت الفقاعة على بعد إنشين منه ارتجف جسده ورأى ما اعتبره خيانة زوجية تحدث في غفلة عن والده . كانت  زوجة والده، وجارهم الشاب يركضان في الفقاعة الشفافة الحمراء، وكانت الفقاعة التي بحجم كرة قدم تزداد توهجاً مع ضحكاتهما وعناقهما المحموم  بينما تتبدل ألوانها من الفضي إلى الوردي الفاتح إلى الأرجواني المتوهج.

في اليوم التالي لم يخرج كعادته لملاقاة أصحابه، بل أمضى يومه يراقب الزوجة الشابة وهي ترابط عند النافذة وتنظر بعيني قط محروم إلى باب الجيران.  

عند الغروب جلس خلف نافذته يراقب الزوجين وهما ينهيان آخر عاداتهما اليومية. سمع قرقعة الصحون وانسياب الماء في الحمام… دعسات والده… وقفل باب غرفتهما. عندها سحب كرسيه وجلس تحت شجرة النارنج  ينتظر الفقاعة التي اقتربت منه، وقدمت نفسها له كشاشة سينما أبطالها زوجة أبيه وجارهم الشاب. كانا يسبحان عاريين في مغطس ماء حار.

يتعانقان …يركضان على الحافة الدائرية للمسبح …يغيبان في أروقة قصر باذخ،  ثم يقفزان في الماء، و يواصلان السباحة.

غرس سبابته فأحس بلزوجة الفقاعة أخرجها ثم غرسها مجدداً كمن يوجه طعنة بسكين  فانقبض وجه المرأة وتراجعت للخلف، وهي تنظر حولها بذعر، شعر العاشق بالخطر فسبح هارباً خارج الحيز الذي يشمله الحلم لكن آدم ضربه في ظهره بسبابته فانزلق الشاب عند طرف الحوض وارتطم رأسه بالرخام، وسالت دماء كثيرة،  ثم تحول لون الفقاعة قبل أن تتبدد من الوردي إلى الأسود عندها سمع صرختين من الغرفة، وركض والده -الذي كان شخيره قبل ثوان يملأ الأرجاء – هلعاً ليملأ كوب ماء.

ما اعتبره  هواية ومارسه لسنوات  في المقهى وفي الشارع مع  المتشردين تحول بعد وفاة والده إلى حرفة حيث قصده الناس من كل مكان، وطارت سمعته إلى أوروبا وأفريقيا. قصده إعلاميون فاشلون وصحفيون يبحثون عن الشهرة بأي ثمن و دفعوا أموالاً طائلة لكي يروا قدراته الخارقة.

قصده الجميع بما فيهم الفنانون والسياسيون، والأساتذة الجامعيون، وأخيراً السحرة الذين أرادوا أن  يتعلموا منه طريقته في تحويل الحلم الأخضر إلى حلم يابس والأحلام الوردية إلى أحلام سوداء وكوابيس.

كان باب بيته مزدحماً واضطروا إلى هدم حارتين لكي يوسعوا الشارع المؤدي إلى بيته باعتباره ثروة إنسانية كما وقف خمسة عشر شرطياً وثلاثمائة متطوع  لتنظيم حركة المرور، واستعمل مئات المساعدين لتنظيم الزبائن في باحة البيت وفي الشوارع والمقاهي الجانبية والذين كانوا من كل الأجناس والأعمار.

كانت تقصده النساء لكي يباغت أزواجهن وعشيقاتهم في أسرتهن، ويحول أحلامهم  إلى كوابيس….

…الرجال الذين  يطلبون منه أن يتجسس على أحلام رؤسائهم في العمل

…آخرون يتفرجون على رغبات حبيباتهن ولكل شيء تسعيرة  فمشاهدة الحلم لها ثمن، والعبث به له ثمنه أيضاً.

كان كل شيء يسير باعتياد إلى أن أتى ذلك اليوم ….

في البداية أرسلوا إليه أشخاصاً يلبسون قبعات جلدية تخفي عيونهم  يجلسون في باحة البيت، و يراقبون باب مكتبه ويتهامسون فيما بينهم. في صباح أحد الأيام احترق منزله وفي يوم آخر نهبت نقوده ثم طردوا زبائنه وفي النهاية طلبوا إليه أن يعمل لحسابهم.

– تعمل لدينا ويعود لك ما أخذ منك مضاعفاً. عملك الآن سيختلف. نحن لا تهمنا خيانة الأزواج ولا الزوجات ولا ترهات العشاق والمراهقين.

على من سأتجسس إذاً؟

ستعرف لاحقاً.

كان تصنيف الأحلام يتدرج من عالية الخطورة كالأحلام المتعلقة بالأفكار  وأطلق عليها أحلام المجانين… إلى متوسطة الخطورة كالبيوت الفارهة أو السيارات الجميلة أو النساء الفاتنات وسميت أحلام اليائسين… إلى لا خطر منها وهي المتعلقة بوجبات الطعام  كأن يحلم الشخص بدجاجة مشوية أو مرطبان من العسل أو سلة من الفواكه وسميت أحلام الأموات.

لكن رئيسه في العمل أصر على أن كل الأحلام  خطرة لأنه إذا حظي الحالم بمرطبان العسل فسينتقل إلى المرتبة الأعلى، وهكذا حتى يبدأ بإطلاق أفكاره كما يطلق ريحاً من مؤخرته دون حسيب أو رقيب ، وكان يخبره كل صباح  مقطوعته اليتيمة: نحن لم نبن لك هذا المكتب كي تترك تلك الحشرات الخطرة تعبر من سماء المدينة .

وبذلك  صار يعمل دون ملل ويطلق العنان للشر الذي رباه في صدره طيلة السنوات الماضية تحت شجرة النارنج .

في بعض الأحيان كان يقبض على شخص وهو يعبر بوابة بيت ذي إطلالة جميلة أو يتأمل شرفة قصرعندها يلامس الفقاعة بصاعق كهربائي  فتهتز الفقاعة وينهار البيت فوق رأس الحالم، قد يعاود الحالم الكرة في الليلة التالية لكن بعد محاولتين أو ثلاث سيستيقظ مذعوراً بمجرد رؤيته لإطلالة جميلة أو بيت مترف.

وفي أحيان أخرى يجد أحدهم متأنقاً ويمشي بزهو فيوجه مروحة إلى حلمه تجعله يتأرجح وسط دوامة ريح عاصفة ثم يسكب الماء الممزوج بالوحل على ثيابه ولا يكتفي بتخريب هندامه وبعثرة شعره بل يطلق خلفه كلاباً متوحشة.

أحلام الشعراء والفلاسفة صنفت ضمن عالية الخطورة حيث يلقي هؤلاء المواعظ والنظريات حتى في نومهم لذلك  كان يسكب فوقهم دلواً من الأسيد وهو يقسم أن يجعلهم: يتبولون في أسرتهم وعلى زوجاتهم وبالفعل كانوا يستيقظون وقد نسوا كل تفصيل ما عدا رائحة الأسيد والفراش المبلل ولعنات الزوجات.

تسليته الوحيدة هي أحلام الفقراء كأن يباغت شخصاً مع تفاحة أو حبة موز يضع فوق سبابته دودة ويغرسها في الفقاعة فتتحول الثمرة إلى حشرة ضخمة.

أمضى حياته يدخل زلازل في الأحلام  يسكب الأسيد والكيروسين يطلق كلاباً وأفاعيَ، يرمي في طعام الفقراء حشرات وقذارات ولم يترك حلماً يكتمل وكان يردد الحكمة التي سمعها من دون أن يفهمها: للأحلام قوة تجعلهم يستيقظون ويفهمون لكن الكوابيس تفعل العكس.

في النهار يقضي وقته  في الحانة ثم ينام بضع ساعات. في الليل يبدأ عمله صار لديه مساعدون وتلاميذ مثله ضخام الهيئة لذلك أطلق عليهم الفيلة، وأضيف بجانب اسم كل منهم رقم، مثل الفيل واحد، الفيل اثنان، الفيل ألف.

مع الوقت ازداد عدد الفيلة، وصارت الأحلام تُبتر من منتصفها، وتتحول إلى كوابيس، وكان  لكل حلم فيل ينتظره على مفترق الطريق، بعد زمن لم تعد تمر أية فقاعات متوهجة فقط الفقاعات السوداء كانت تستطيع المرور عبر سماء المدينة.  

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي "عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟"، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد"، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا...

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

مع بدء الحرب السورية تمكنت المؤسسات والمنظمات غير الربحية المندرجة تحت مظلة المجتمع المدني من إثبات وجودها وترك بصمتها على أرض الميدان، فكانت الجمعيات الخيرية والمبادرات الفردية الإنسانية أولى الجهات غير الرسمية التي استطاعت توسيع دورها على خارطة العمل وإنقاذ الفئات...

تدريباتنا