أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...
كيف كتبت الغرانيق، ومرايا الحياة في زمن الصمت، وتشظيات.
أقف على شرفة شقتي في الطابق الثالث، المطلة على الساحة الرئيسية في البلدة، وأنظر إلى الشوارع، وقد فرغت من المارة وأرخت الحوانيت أغلاقها، حتى القطط والكلاب الشاردة اختفت، هي واليمام المعشش بين أخشاب أسطح البيوت القديمة. وساد صمت ثقيل مريب على البلدة “وكأن أناسها قد هجروها، أو أن إلهاً أسطورياً عبثياً خلق البلدة، ونسي في لحظة ثمالة أن يخلق أناسها”، أمسك بقلم وأكتب على ورقة مرمية أمامي على طاولة صغيرة في الشرفة.
حدث هذا في عام ٢٠١١، بعد خروج التظاهرات في بلدتي الواقعة في ريف دمشق الغربي، كما خرجت في المدن والبلدات السورية، تطالب بـ”إسقاط النظام” وبـ”الحرية والكرامة”… وقد جاء اليوم دور اقتحام بلدتي من قبل خليط من “جيش النظام” وأجهزته الأمنية ومجموعات من “الشبيحة”، وإجراء حملة اعتقالات شاملة بين الأهالي لكسر شوكة “الانتفاضة السلمية”.
ومنذ الصباح، ومع توارد الأنباء عن حصار “جيش النظام” للبلدة وتحرك المدرعات نحوها، اختفى نشطاء “الانتفاضة” في الحقول والتلال حولها، والتم الأهالي في بيوتهم قلقاً وترقباً… وأقف أنا على طرف الشرفة مستطلعاً ومترقباَ، وأيضاً بقلق شديد.
دخلت الدبابة الأولى إلى الساحة تستطلع الوضع، وهي تزمجر وجنازيرها تحفر الإسفلت، وتوقفت عند مدخلها. أشاهدها، وأسمع صرير برجها يدور، فإذا بمدفعها يتجه نحو شرفتي. وشعرت أن عيناً معدنية تراقبني من داخل برجها. ينتابني خوف شديد، ويتصبب عرق غزير مني، وأنا كنت أظن نفسي متفرجاً، وإذ بي أصبحت هدفاً… لكنها تتراجع في لحظة أخيرة عن إطلاق قذيفتها، وأكتب على أوراقي بيد مرتجفة مبلولة بالعرق مع التوقيت “اكتشفت الدبابة أنني لست أميراً صحراوياً في إمارة إسلامية، يقود جيوشه المؤمنة من الشرفة، ولا ألوح بسيف، أو بلطة، أو ساطور.”
وسرعان ما تتالى وراء الدبابة الأولى رتل من الدبابات… ثماني، تسع، عشر. وأكتب ملاحظة عنها، ودائماً مع التوقيت، وأنا على الشرفة. تنحرف سبع منها نحو البلدة القديمة… أكتب. ووراء الدبابات، يدخل جنود، أشاهدهم يتمركزون في المواقع المهمة في الساحة، وتليهم فرق المداهمة من “الأمن” و”الشبيحة”، بشاحناتها الصغيرة المحملة بالرشاشات، والسلالم، والحبال… أكتب. تشتعل سيمفونية إطلاق رصاص غزير في الأحياء القديمة، حيث تنطلق التظاهرات عادة، يطلقها الجنود على الغيمات العابرة والظلال… أكتب. تنتشر فرق المداهمة في البلدة، وتأخذ باعتقال شباب ورجال من البيوت وفق دلالات المخبرين الملثمين المرافقين… أكتب. يقف مخبر غير ملثم من شباب “المساكن العسكرية”، المتاخمة للبلدة، متحدياً في الساحة… أكتب. يخرج رجال ونساء موالون لـ”النظام” إلى الشارع، ويتطوعون لكشف منازل “المتظاهرين” وكل من “يعارض النظام من الرجال والنساء والأطفال والقطط والعصافير”، لهجتهم السلطوية تفضحهم… أكتب. تبدو الاعتقالات عشوائية، حسب مزاج “المخبرين” و”الموالين”… أكتب. تصل حافلات النقل المدنية الخضراء فارغة إلا من حراسها، تلك التي استوردتها الدولة من الصين حديثاً لتخفيف أزمة المواصلات في العاصمة، وتتوزع في البلدة… أكتب. ترجع ممتلئة بالمعتقلين، أراهم مقيدين، راكعين على أرضها، وقد شُدت العُصابات على عيونهم، و”الشبيحة” على أبوابها، يطلقون الرصاص في الهواء ابتهاجاً بالتقاط “طرائدهم”… أكتب. تصل فرق المداهمة إلى بنايتي، يحطمون باب شقة فارغة، يتسلقون السطح… أكتب. أشعر بهم أمام باب شقتي… أتوقف عن الكتابة.
وكانت حصيلة الحملة العشوائية الضارية يومها اعتقال حوالي ٧٠٠ شخص من أهالي البلدة، معظمهم من غير المتظاهرين، وهؤلاء كانوا قد اختفوا بغالبيتهم في الحقول والتلال، أو فروا إلى البلدات المجاورة الآمنة .
كانت تلك الحملة الأولى من الاعتقالات في بدايات “الانتفاضة” في بلدتي، وكانت السلطة تظن وقتها أن “حفلة تعذيب” قاسية للمعتقلين ستردعهم عن التظاهر في الشوارع، ومن ثم أفرجت عن معظمهم ـ لكن في حملات الاعتقال التالية لم يعد يرجع أحد من المعتقلين، كان الجميع يُصابون وفق تقرير طبي رسمي بـ”نوبة قلبية” مفاجئة في المعتقل، بمن فيهم المراهقون والشباب الصغار، وتختفي جثثهم برعاية مافيات المتاجرة بالأعضاء البشرية، ويحصل أهاليهم على بقايا مقتنياتهم: الهوية الشخصية وشحاطة بلاستيكية.
أشاهد آثار التعذيب على أجساد العائدين من الاعتقال في الحملة الأولى؛ على الوجوه المتورمة المشوهة، والأضلع المكّسرة، والجروح النازفة الملتهبة، وخاصة عند المعاصم، حيث شُدت القيود البلاستيكية بعنف… أكتب. وأشاهد الكآبة على الوجوه، وامتلاء القلوب بالحقد على الجلاد… أكتب.
قال أحدهم “أنا لم أخرج مع المتظاهرين، فلماذا اعتقلوني وعذبوني”… أكتب.
قال لي ثان “في مركز التجميع الأول، دخل علينا عسكري “بغل” من دير الزور، وأخذ يضربنا بشكل عشوائي بسوط، ويرفسنا ببوطه العسكري. ولما تدخل ضابط برتبة “عقيد” لمنعه من ضربنا، نهره صف ضابط صغير “مساعد” من “الفرقة الرابعة”، مهدداً “لا تتدخل فيما لا يعنيك”… أكتب.
قال لي ثالث “حشرونا عشرين شخصاً في زنزانة تتسع لخمسة”… أكتب.
قال لي رابع “قتلوا أخي تحت التعذيب”… أكتب.
وقال خامس، وسادس… وعاشر… أكتب.
وأكتب أن معظم هؤلاء المعتقلين من أهالي بلدتي شعروا بإهانة كرامتهم على يد “الجلاد الصغير” و”الجلاد الكبير”، وأكتب أنهم حملوا السلاح في أول خطوة من “عسكرة الانتفاضة” في رد فعل على العنف الموجه ضدهم.
ومن هنا بدأت عمليات الاغتيال المتبادلة؛ “المنتفضون” يغتالون “المخبرين”، و”الشبيحة” من “المساكن العسكرية” يردون عليهم باغتيال عشوائي لـ”أعيان البلدة”. وليس بعيداً من بنايتي، حدثت أربع عمليات اغتيال متتالية لـ”مخبرين أمنيين” شرسين، تسببوا باعتقال المئات من شباب البلدة… حدث هذا وأنا على الشرفة… وأكتب.
وفجأة تتشكل الملاحظات التي أكتبها في فصل متكامل، لم يكن ينقصها إلا الصياغة الأدبية مع بعض الخيال الروائي ـ طبعاً إلى جانب الفانتازيا التي أحبها. ومع أن هذا سيكون الفصل ما قبل الأخير في روايتي الجديدة، فقد ولدت به “الغرانيق”، وسيتم نشرها بعد ثلاث سنوات من كتابتها، وسأكون محظوظاً أن ذلك حدث بعد الخروج من البلاد بعد ست سنوات من بدء “الانتفاضة”.
بعد حملة المداهمات الأمنية الأولى، تحولت البناية التي أسكنها إلى موقع عسكري محصن لـ”جيش النظام”، بسبب إطلالتها الإستراتيجية على الساحة التي كان يجتمع فيها المتظاهرون، فملأ العسكر شققها بعد فرار معظم قاطنيها، وتوزعت الرشاشات على سطحها، وتوضعت الدبابات أمامها، وتوزعت كاميرات المراقبة حولها. وتم خطف مالك البناية من قبل “عصابة أمنية”، طلبت فدية عالية مقابل الإفراج عنه، لم تستطع عائلته جمعها، فتم قتله. وهربت زوجتي وطفلاي الاثنان أيضاً من البناية، بعد معركة حامية الوطيس حولها، وقد استقر رشاش فوق سطح شقتي تماماً، تهتز معه، وهو يطلق الرصاص بدون توقف طوال معركة طويلة.
…وأنا بقيت في شقتي. كان لدي فيها مكتبة ضخمة، جمعتها منذ طفولتي، وذكريات العائلة… وكان لدي أمل أن الأمور ستنتهي قريباً.
حدثت المداهمة الأولى لشقتي من قبل حوالي أربعين عسكرياً من عناصر “جيش النظام” المقيمين في البناية، بدعوى أن هناك من يصور انطلاق الدبابات ومجموعات الجنود منها ، ويبث ما يصوره على شبكة النيت كتحذير لـ”المنتفضين”. وكان هناك حقاً شبان صغار شجعان يتسلقون بناية مجاورة مهجورة بقربي، ويقومون بالتصوير بهواتفهم المحمولة من مستوى شقتي. وحتى تم التأكد من أنه ليس لدي جهاز هاتف محمول ولا شبكة نيت، كانت قد تم قلب شقتي رأساً على عقب، وتبعثرت محتوياتها، وأصيب بعض الجنود بخيبة أمل عندما لم يجدوا “ذهباً” في خزانة زوجتي .
وقف ضابط المداهمة برتبة “نقيب” أمام مكتبتي مذهولاً، واختار أكبر مجلدين ضخمين أنيقين ليأخذهما، فقد يجد فيهما قصص مغامرات وجنس يتسلى بهما، وخاصة في الليل، حيث لا يجرؤ هو وجنوده على مغادرة البناية. قرأ العنوان “من الفناء إلى البقاء” للباحث الفلسفي المصري حسن حنفي بجزأين، وسرعان ما رماهما أرضاً كأنه أمسك عقرباً سيلدغه، وصرخ “ماذا تفعل بهذه الكتب المجنونة؟”. تلعثمت وبربربت بشيء غير مفهوم، فأردف “لو جاءت دوريات الأمن بدلاً مني لرمتك أنت وكتبك من الطابق الثالث إلى الشارع مباشرة، قبل أن يبحثوا عن هاتفك المحمول.” وأراد اصطحابي مع عسكره ليتسلى بالتحقيق معي في شقته، حسب ما يفعل مع أهالي الحي… لكن معركة اندلعت مع “منتفضين مسلحين”، ليس بعيداً عن البناية، فتركني عند الدرج، وأنا أكاد أتعثر بشحاطتي.
تحول الطابق الأول غير مكتمل البناء إلى مركز تحقيق أمني أولي، وكانت سيارات الأمن تقود المعتقلين الذين يُسحبون من بيوتهم، أو الذين يُلتقطون على الحواجز الأمنية في الشوارع إليه. يتم إدخالهم إلى البناية وراء بعضهم البعض، مربوطين بحبل طويل أمام أعين المارة، وكنت أرى الذين يُسحبون من بيوتهم حفاة وشبه عراة. وعندما يتم إخراجهم إلى المراكز الأمنية، كانت ثيابهم تبدو ممزقة والدماء تنزف منهم. وكانت الأصوات المجروحة المتألمة في “حفلات التعذيب” تضج في الشوارع والحارات، وتقتحم شقتي عبر منوَّر البناية. وحتى عندما تتوقف، تبقى تضج في رأسي، وهي تجأر “دخيل الله، ليس لي علاقة، ما بعرف.” أما التحقيق العسكري، فكان يجري في شقة من الطابق الثالث، تشترك مع شقتي بجدار مشترك. وأذكر تحقيقاً مع شاب بتهمة “إرهابي” لأنه نافس عسكرياً من البناية على “عشق” فتاة في الحي القريب من البناية.
وذات يوم انتشر خبر “انشقاق” أربعة جنود من البناية، وتمت مداهمة البيوت المجاورة بحثاً عنهم، لكن “المنشقون” كانوا قد أصبحوا خارج البلدة، في مناطق آمنة مع “المنتفضين”.
ونتيجة توتر الأوضاع ليلاً، والخوف من “المنتفضين”، أخذ العسكر يقنصون من يسير في الشوارع ليلاً من الأبنية التي حولوها إلى مواقع عسكرية. وبعد أربع جثث امتنع الأهالي عن مغادرة منازلهم… ليلاً، ومعظم نهارهم.
كان الوضع الذي أعيشه عبثياً كافكاوياً، وعدمياً يذكر بكامو أيضاً، وكل هذا مع مزيج من سخرية كوميديا سوداء في أكثر صورها غرائبية… أن تعيش “حراً” في معتقل، وفي موقع عسكري، فتستطيع الدخول إليه والخروج منه بـ”حرية” نسبية، رغم وجود مناوبات حراسة عسكر ظاهرة، ومخبرين متخفين في المحلات بصفة باعة… وكنت أكتب، لكن بشواش شديد وفوضى غريبة هذه المرة، ملاحظات متناثرة، أسطر غير مكتملة.
في المداهمة الأخيرة لشقتي من قبل العسكر عصر ذات يوم، اقتحمها وسط ذهولي حوالي ثلاثين عسكرياً بخوذهم وأسلحتهم الكاملة، كان أحدهم يحمل رشاشاً بشريط رصاص طويل يلفه على جسده، وبقيادة “عقيد” موتور، استلم حديثاً الموقع العسكري ـ الشقة، والحاجز الأمني أمامها، دخلوا كمن يقتحمون ساحة معركة. ظننت أن ما يحدث أمامي “فيلم رعب أمريكي”، وأنني دخلت مشاهده بالخطأ عن طريق تقنيات “الواقع الافتراضي” الحاسوبي… كان عسكري واحد يكفي ليأخذ مني ما يريد.
وبما أن معظم الجنود المداهمين يعرفونني، يشاهدونني أدخل إلى البناية وأخرج منها يومياً عدة مرات، وهم في نوبات حراستهم على مدخلها، فقد بدوا متوترين، لا يعرفون ماذا يفعلون بي… صرخ بهم العقيد “فرغوا الخزانة… اقلبوا الأرائك… انزعوا الفرش عن الأسرة… ابحثوا في أواني المطبخ… اقلبوا الكتب أرضاً”… كنت أرغب بقلم وورقة لأسجل كيف يبحث الجنود عن أنفاق وممرات ومغائر في شقتي، لكن معركة حامية الوطيس من قلب الأثاث وبعثرته رأساً على عقب كانت دائرة.
وفجأة تحولت الشقة إلى ركام حقيقي، وكأنها تعرضت إلى زلزال مدمر، أو تسونامي بحري، وأنا مذهول مما يحدث. وجد الجنود بين ألعاب أطفالي “مسدساً بلاستيكياً، يرش ماء”… يعلق العقيد “وتقول لي أنك رجل مسالم… وأنت إرهابي.” وجد الجنود كرتونة، فيها ملابس داخلية قديمة لزوجتي… أخرجها العقيد قطعة قطعة بطرف بندقية، يستعرضها أمام العسكر، وهو يصرخ بسخرية “وتقول أنك مثقف، والنساء “الشراميط” تحضر لعندك طوال الوقت.”
لم يكن يريد “العقيد” سوى إهانتي، وربما ودفعي إلى مغادرة الشقة، وكأنه يشعر بالحقد لأنه لم يتم اعتقالي بعد ولا مرة، فلم أكن فقط رجلاً تجاوز الستين من عمره ومسالماً، إذ أنه من المفترض أيضاً أني أعيش بأمان في موقع عسكري، حيث لا يزورني أحد فيه. خرج العسكر من ركام الشقة، أما أنا فجلست بين ركام الزلزال والتسونامي، وقد زارت عيني دمعتان، وأنا أنظر إلى شيء واحد معلق أمامي على الجدار، نسي العسكر نزعه؛ كان برنس ابني الصغير، الذي خرج به من الحمام يوم هروبه، وبقي معلقاً منذ ثلاث سنوات بانتظار عودته… بقيت مذهولاً طوال الليل حتى غفوت فوق كومة ثياب.
في صباح اليوم التالي، ودون أن أرتب شيئاً في الشقة من ركام الزلزال، جلست إلى طاولتي، وبدأت أكتب روايتي التالية “فيلم سوري طويل” أو باسم آخر “مرايا الحياة في زمن الموت”… تفجرت أفكار الكوميديا السوداء الساخرة بطريقة مذهلة، لم أستطع إيقافها وهي تتدافع وأخذت أكتب بجنون شهراً، واثنين، وعشرة، وسنة.
وفي أثناء ذلك، كان “العقيد” الموتور “يعفش” جميع البيوت الفارغة بدعوى أن مالكيها “إرهابيون”، مستغلاً عدم خروج الأهالي ليلاً خوفاً من القنص، ويؤمن الغطاء الأمني لخطف أهالي من البلدة من أجل الحصول على فدية مالية عالية. ويوم ماتت والدتي السبعينية “نبش” الجثة حتى كاد يفك الكفن عنها ـ دون أن أعرف عن ماذا يبحث، وسمح لستة أشخاص منا بدفنها في المقبرة، بعد الحصول على موافقة أمنية، وتحت إشراف حاجز عسكري مجاور لها… ويوم انفجر به لغم ومات، زغردت النساء في بلدتي، فيما لف هو بالعلم الوطني.
أنهيت الرواية منذ عامين، وتنتظر دورها في النشر. أتريث قليلاً حتى تأخذ “الغرانيق” مداها.
سيطر “عسكر النظام” على بلدتي بعد عدة حملات اجتياح واعتقالات وقمع دموي لها، وأصبح الأهالي تحت رحمة “أجهزته الأمنية” و”ميليشياته الانكشارية الطائفية”، إلا أن خط النار مع “المنتفضين” سيستقر لعدة سنوات غير بعيد عنها ببضعة كيلومترات فقط. وفي أثناء ذلك، لم ينقطع الأمل لدى الأهالي من “تحرير” مناطقهم، رغم بدء تكدس “الميليشيات الشيعية الإيرانية” فيها.
كانت “الانتفاضة السورية السلمية” قد تحولت إلى “العسكرة” كرد فعل على العنف الموجه إليها من قبل “النظام العسكري”، ومن ثم إلى “الأسلمة”، بعد أن غدت مطية دول إقليمية تحت يافطة “أصدقاء سوريا”. وكل منها يريد تحقيق مصالحه في البلاد باسم “المعارضة”، ضمن صراعات نفوذ ونزاعات إقليمية ودولية، تشتم منها رائحة “النفط” و”الغاز”، و”الموقع الاستراتيجي للتحالفات العسكرية.
حمل “المنتفضون” في البداية اسم “الجيش الحر”، الذي ما لبث أن حلت مكانه “جماعات إسلامية”، رفعت رايات سوداء وبيضاء، حسب الجهات الخارجية الداعمة. وتحولت إلى التنازع فيما بينها، على “مناطق النفوذ والسيطرة”، إلى جانب الاختلافات الدموية على “حف الشوارب”، و”اللباس الأفغاني”، وإقامة الحدود على “المدخنين”، و”المرتدين”، و”النصيرية”. وما أن تسيطر جماعة منها على “بضعة أمتار” من أرض حتى تعلن عليها “خلافتها الإسلامية”، وتقوم بـ”تطبيق الحدود” على أهاليها، متناسية شعارات “نصرة المستضعفين” والوقوف بوجه “المستبد” التي كانت تدعي أنها سبب إعلانها. كان الأهالي بحاجة إلى “بطولات” تشابه “أحلام اليقظة الجمعية”، ألبسوها لبعض “المغامرين” كمنتفضين، وسيكشفهم المستقبل مشاركين في عمليات خطف لـ”الكفار” مقابل الفدية، لا فرق بينهم وبين العصابات التي ترعاها “الأجهزة الأمنية” سراً لخطف الأهالي مقابل الفدية.
وفيما انضم إلى “الجماعات الإسلامية” مقاتلون أصوليون من بلدان مختلفة، كان نشطاء “الانتفاضة” السلميون ومعظم “المنشقين العسكريين” ينسحبون من المواجهة مع “النظام”، بعد افتقاد الدعم “الغربي الديمقراطي المزعوم”، ويتفرقون مهجرين مشردين في بلدان مختلفة.
وفي لحظة انهيار في صفوفه، استقدم “النظام” ميليشيات شيعية إقليمية بقيادات إيرانية، وتحول إلى أداة إيرانية، تقوم بتدمير منهجي لمناطق “السنّة” بالبراميل المتفجرة، ضمن مشروع “التغيير الديموغرافي الإيراني”، والقائم على تهجير أكبر عدد من سكان هذه المناطق بـ”غطاء دولي” صامت. لم تكن إيران ترغب بانتهاء الحرب وقيام تسوية سياسية ما، إذ كان معنى ذلك خروجها من البلاد خاسرة، لذلك فلتشتعل طويلاً مادام وقودها هم “أهل البلاد” من أجل “هلالها الشيعي”، وطالما منحها “أوباما” فرصة تاريخية لن تتكرر بسهولة مقابل “الاتفاق النووي” معها.
وفي لحظة انهيار ثانية لـ”النظام”، رغم ثقل “الدعم الإيراني”، دخل “الروس” بقوة تدميرية هائلة، مناسبة للصراع مع جيوش غربية قوية، بدعوى القضاء على “الإرهاب”، وأخذوا يستكملون تدمير البلاد. وبالمقابل شارك الأمريكيون بالتدمير في “حصتهم” من الشمال السوري، وفي بقية المناطق لم يكونوا فقط “يتفرجون” على “المجزرة”، وإنما يعملون أيضاً على إذكاء “جذوتها” باستمرار، دون السماح لطرف بالانتصار على الآخر، حتى تتدمر كامل البلاد، وتتحقق أهدافهم بتقسيم المنطقة وإعادة رسم حدودها.
أنتظر أهالي بلدتي طويلاَ، مثل أهالي البلدات الأخرى، قدوم “الإسلاميين” لـ”تحريرهم” من سلطة “عسكر النظام” و”الميليشيات الإيرانية”، بعد أن وعدوهم بـ”النصرة” أو “الشهادة في سبيل الله”، وقد كانوا قريبين منها عدة كيلومترات فقط… وإذ بـ”الإسلاميين” يهاجرون إلى الشمال، تاركين أهالي البلدات الذين انتظروا طويلاً “نصرتهم”، وسلموهم إلى “النظام” و”ميليشياته”، واستغنوا عن “الشهادة في سبيل الله”. حدث هذا باتفاقات إقليمية مريبة، قطرية ـ تركية من جهة، وإيرانية من جهة أخرى، على طريق إقامة كيانات “سنية” و”شيعية” مستقبلية، فيما سلمت تركيا حلب إلى”النظام” و”الميليشيات الشيعية”، فقصمت ظهر “معارضة النظام” نهائياً، مقابل منحها الحرية في منع تشكل “دولة كردية” في مواجهة الضغوط الأمريكية.
وبعد ما تم الاتفاق على تقسيم “الكعكة السورية” بين القوى الإقليمية والدولية، لم يعد هناك مبرر لوجود “داعش”، التي حضرت إلينا كل القوى الإقليمية والدولية بدعوى قتالها، فاستكملوا تدمير البلاد بدلاً من تدميرها… أما “داعش” فقد تلاشت لوحدها بهدوء نسبي، دون أن تترك أثار “أسرى حرب أو محاكمات…، بعد أن أدت دورها في مسلسل أمريكي هوليودي متقن الصنع مخابراتياً.
وفي هذه الأثناء، تحول السوريون بجميع أطرافهم إلى المشاركة في مشاهد مسرح موت عبثي على أراضيهم، يلعبون فيه معاً أدوار “القاتل” و”المقتول”، في صراع بين “مشروع وهابي خليجي” و”مشروع شيعي إيراني”، إلى جانب صراع من أجل “بناء مشروع إخوان مسلمين إقليمي” “بناء هلال شيعي”، لتكتمل حكايات الموت بصراع خفي ضاري بين الروس والأمريكيين على مناطق النفوذ… ثم فقد السوريون الحماس لأدوار “القاتل” و”المقتول” معاً، في لعبة لم يعودوا يدركون أبعادها.
يموت الأهالي في المناطق الواقعة خارج سلطة “النظام” ـ المسماة “محررة” ـ بقصف تدميري لا يرحم، يمارسه “الجميع ضدهم”، في اختبارات لأحدث الأسلحة، بما فيها الصواريخ العابرة للقارات. وبالمقابل لم تسلم مناطق “النظام” من الجنون الذي ينال الجميع، فليس هناك خيار أمام الشباب من كل الأعمار إلا سوقهم إلى “الخدمة الإجبارية” أو “الخدمة الاحتياطية” أغناماً ماضية إلى “الذبح”، في حروب “الآخرين” العبثية… أو التهجير والتشرد في أصقاع الأرض.
تشظت البلاد، وقد اقتسمتها القواعد والجيوش والميليشيات الأجنبية، و”تشظى” الإنسان معها أيضاً، وقد اقتسمته “عسكرة النظام” و”أسلمة ما تبقى من معارضة”، بحدودهما القصوى… و”تشظى” في الوقت نفسه من رُمي خارج البلاد. في الداخل إنسان ممزق بالرعب والموت المجاني، وعليه أن “يصفق” بقوة لآلهة بهيمية متوحشة غامضة، كي يعيش، وفي الخارج ممزق بالضياع والتشرد، و”الحنين” لأشياء مبهمة كانتها البلاد؛ بيته وأصدقائه وذكرياته… وإلى جانب ذلك عدنا نعيش جنون “ما قبل الحداثة”، لا أدري إن كنا قد غادرناها أصلاً؛ جنون “البداوة”، و”الطوائف”، و”عسكرة البوط”، و”عسكرة السيف”، وتحول من يمثل السوريون إلى “دمى في مسرح عرائس.” وأصبحنا نتحدث عن “نصيريين”، بدلاً من علويين، وسنّة، ودروز، وإسماعيليين، وعن “تشييع ولطميات”، و”أمويين وحسينيين”… عن مسلمي و”مسيحيي جزية”… عن عرب، وأكراد، وتركمان، و”فينيقيين” بانتماءات جديدة… عن عبدة “ابن تيمية” و”الإمام علي”، وطقوس وثنية لـ”البوط العسكري” و”بوتين”… عن “كعبة مكة” و”كعبة قم”… وعن “غرانيق” جديدة في الأرض.
… وهكذا ولدت روايتي الأخيرة “تشظيات”؛ تشظيات الإنسان السوري من أي طرف كان، وفي أي مكان كان… أصبحنا في الوقت نفسه “جلادين” و”ضحايا” لأنفسنا…”ساديين” و”مازوشيين”، نغرق في أحلام يقظة يائسة تعبيراً عن فشلنا في مواجهة الذات والواقع. أكتب “تشظيات” بناء على شهادات “ناجين من الاعتقالات”، و”ناجين من الغرق في البحار”، مازالوا يعيشون الجرح اليومي النازف… شهادات “جلادين للنظام” و”أمراء حرب إسلاميين” يفتخرون بساديتهم علناً… هي شهادات الموت والحياة… شهادات أعدت صياغتها أدبياً، ولكثرتها كان عليّ أن أختار منها لضرورات النشر.
لم تحطم “الانتفاضة السورية” تماثيل “الغرانيق” في الساحات فقط، وإنما تماثيل “الغرانيق” في العقول أيضاً؛ أشباه الآلهة تلك التي حاول عسكر “النظام الشمولي” أن يزرعوها في أذهاننا بالرعب والقمع… لكن في الوقت نفسه أتساءل من أين يأتي كل هذا العنف الذي يعيشه السوريون، وبأيديهم؟ هل هو ميراث الستالينية، الذي ورثته “الأحزاب العقائدية” لدينا، التي انكشفت هشاشتها وجذورها العشائرية والطائفية، بغض النظر عن علمانيتها الشكلية، ميراث تشربه العسكر، بعد أن دعموه بمزج عجيب من “فقيه السلطان”… أم هو “طبائع البداوة” و”الاستبداد الشرقي” المتجذر في نفوسنا وثقافتنا اليومية… أم هو تداعيات “تهميش المدن والأرياف” من قبل “استبداد عسكري أمني” خلال زمن طويل لصالح “مافيات إنكشارية طائفية”… أم هو “الترييف العسكري” ـ بمظهره “السلطوي” ـ في مواجهة “ترييف محافظ متعصب”… أم هو “عسكرة الحياة اليومية والمؤسسات والعقول والثقافة” التي مارسها العسكر والأحزاب العقائدية، إلى جانب تاريخ متجذر من “الدعوة اليومية إلى الجهاد على منابر المساجد” يقابله “خوف الأقليات التاريخي العميق”… أم هذا كله مجتمعاً؟
منذ السنوات الأولى لـ”الانتفاضة” ساد نقاش بين الروائيين السوريين عن الكتابة عن “الثورة السورية” أو عن “الحرب” لمن فقدوا الأمل من الثورات بعد أن عاشوا المآلات… هل نكتب في خضم الأحداث، أم عندما تنجلي الأحداث؟
كان رأي الجهة الأولى هي الكتابة في خضم الأحداث، فتأتي الحكايات أكثر حرارة وانفعالية، حيث يمكن نقلها بصورة أكثر واقعية ووثائقية، فالروائي هو ابن الأحداث التي يعيشها، وهو الذي ينفعل بها، وينقلها مباشرة، وهنا بالذات من خلال احتكاكه المباشر مع الموت والخراب والتهجير.
لكن بالمقابل كان رأي الجهة الثانية معاكساً، إذ ينبغي انتظار انجلاء المشهد في خواتمه، حتى يمكن محاكمة الأحداث التاريخية بطريقة أكثر عقلانية، فمن كان يظن أن “الانتفاضة السلمية” ستفرز “إسلامييها المتطرفين”، على سبيل المثال، ومن كان يتوقع هذا الجنون من تدخل القوى الإقليمية والدولية في بلادنا من جرائها؟ وبرأيهم سيكون مثل هذا الحذر ضرورياً كي لا يسقط الروائي في موقف تاريخي لا يحسد عليه.
يبدو أن كلا الطرفين لديه نقاط قوته الإيجابية والسلبية… طبعاً مع الحفاظ على خصوصية كل روائي في مقاربة الأحداث. لكن هل كان من السهل أن تقول لروائي الآن بأن يتوقف عن الكتابة حتى انجلاء الأحداث؟
بالنسبة لي، لم أكن أفكر بأي من الرأيين السابقين، على الأقل بشكل مباشر، فأنا دائماً أعتقد أنني لست روائيا محترفاً، مع أني نشرت روايتي الأولى “وصايا الغبار”، والآن روايتي الثانية “الغرانيق”. لكن الكتابة اليومية ـ وإن بأبسط أشكالها كملاحظات ـ هي بالنسبة لي جزء من نفسيتي، ومن نمط حياتي، وطريقة تفكيري، هي جزء من حياتي اليومية، وأمارسها كما أمارس “أحلام اليقظة”… هي الهواء الذي أتنفسه وأعيش به، والحلم الذي يجعلني أحتمل الحياة القاسية حولي، سواء بوجود “حرب” أو بدونها.
وبالمقابل لدي شعور مبهم دائم أني أطفو في الزمن، مما يجعلني أعيش حياتي كأحداث كرواية، فتتكامل الحياة اليومية مع الكتابة في صياغتها. وبهذا تغدوا الحياة التي أعيشها رواية، والرواية التي أكتبها هي حياتي. ولذلك أكتب دائماً بضمير المتكلم “أنا”، ويسيطر دائماً على رواياتي بطل واحد، لكنه منفصم الشخصيات، أو بالأحرى متشظ إلى عدة شخصيات في آن واحد، هو انعكاس لتشظينا في الحياة؛ في مجتمع قمعي يفرض وجوده على أدق تفاصيل حياتنا، حتى على أحلامنا. ومنذ طفولتنا يحتل “رجل الأمن” و”رجل الدين” ـ عسكرة وأسلمة بتوافق غريب ـ حيزاً كبيراً من حياتنا… ولقد عشت أيام الحرب ـ دون أوهام البطولة ودون أحلام اليقظة الجماعية عنها ـ كشاهد على الموت والخراب والتهجير، أنا وعائلتي وأقارب أصدقاء لي، وهو ما سجلته في كتاباتي.
هل أبدو بهذا ميالاً إلى الرأي الأول عن الكتابة في خضم الأحداث؟ ربما نعم، ولكنني باللاشعور كنت حذراً من الوقوع في التداعيات السلبية التي يعرضها الرأي الثاني… فأنا أكتب دائماً عن إنسان مأزوم، منفصم، متشظ، ولا مكان لدي لتمجيد شخص سيكشفه الزمن “ديكتاتورا عسكرياً”، أو “أمير حرب إسلامياً”، ولا أتحمس لمجموعة سيكشفها الزمن لاحقاً مجموعة إرهابية أو إسلامية متطرفة… أكتب عن المجرم، الذي سيبقى أبد الدهر مجرماً بأفعاله، وأكتب عن الإنسان البسيط المعذب، الذي سيموت بسيطاً ومعذباً… أكتب كي لا تشوه دعاية “المنتصر” حقيقة الموت والخراب الذي نال منا جميعاً… أكتب الحكاية كي لا ننسى، حكايات الشوارع البيوت والحقول، التي دمرتها الحرب، حكايات المصاطب الطينية التي تظللها أشجار الجوز ونشرب عليها الشاي في البلدات، وحكايات الأسواق الشعبية في المدن. حكايات بلا “عسكرة” و”أسلمة”، بلا “بوط عسكري” و”سيف إسلامي”.
كتبت هذه الشهادة بطلب من “صالون سوريا” وستتبعها شهادات أخرى لكتاب وشعراء سوريين يتحدثون عن تجربتهم الشخصية في الكتابة في سياق التجربة السورية في السنوات الأخيرة.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...